فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{اتبِعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون}
لما ذكر تعالى أن هذا الكتاب أنزل إلى الرسول أمر الأمة باتّباعه وما أنزل إليكم يشمل القرآن والسنة لقوله: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} ونهاهم عن ابتغاء أولياء من دون الله كالأصنام والرّهبان والكهّان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك والظاهر أن الضمير في {من دونه} عائد على {ربكم}.
وقيل على ما وقيل على الكتاب والمعنى لا تعدلوا عنه إلى الكتب المنسوخة.
وقيل أراد بالأولياء الشياطين شياطين الجنّ والإنس وإنهم الذين يحملون على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلّون عن دين الله.
وقرأ الجحدري: ابتغوا من الإبتغاء.
وقرأ مجاهد ومالك بن دينار.
ولا تبتغوا من الابتغاء أيضًا والظاهر أنّ الخطاب هو لجميع الناس.
وقال الطبري وحكاه: التقدير {قل اتبعوا} فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدّم الذكر عليه وانتصب {قليلا} على أنه نعت لمصدر محذوف و{ما} زائدة أي يتذكرون تذكرًا قليلًا أي حيث يتركون دين الله ويتّبعون غيره وأجاز الحوفي أن يكون نعتًا لمصدر محذوف والناصب له ولا تتّبعوا أي اتّباعًا قليلًا.
وحكى ابن عطيّة عن الفارسيّ: إن {ما} موصولة بالفعل وهي مصدرية انتهى.
وتمّم غيره هذا الإعراب بأنّ نصب قليلًا على أنه نعت لظرف محذوف أي زمانًا قليلًا نذكّركم أخبر أنهم لا يدّعون الذكر إنما يعرض لهم في زمان قليل وما يذكرون في موضع رفع على أنه مبتدأ والظرف قبله في موضع الخبر وأبعد من ذهب إلى أن {ما} نافية.
وقرأ حفص والإخوان {تذكرون} بتاء واحدة وتخفيف الذال، وقرأ ابن عامر {يتذكرون} بالياء والتاء وتخفيف الذال، وقرأ باقي السبعة بتاء الخطاب وتشديد الذال وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتاءين، وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال. اهـ.

.قال أبو السعود:

{اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم}
كلامٌ مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل تبليغِه بطريق الإنذار والتذكيرِ، وجعلُه منزلًا إليهم بواسطة إنزالِه إليه عليه الصلاة والسلام إثرَ ذلك ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجوبِ اتباعه، وقولُه تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} متعلقٌ بأُنزل على أن {من} لابتداء الغايةِ مجازًا أو بمحذوف وقع حالًا من الموصول أو من ضميره في الصلة، وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه، وجعلُ ما أنزل هاهنا عامًا للسنة القولية والفعلية بعيدٌ. نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق العبادةِ ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعًا له تعالى عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق، ومحلُّه النصبُ على أنه حالٌ من فاعل فعلِ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى: {أَوْلِيَاء} من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ قُدّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخر عنه لكان صفةً له أي أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى، وقيل: الضميرُ للموصول على حذف المضافِ في أولياء ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ أولياءَ كأنه قيل: ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ وقرئ {ولا تبتغوا} كما في قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} وقولُه تعالى: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين وتخفيفِ الذال، وقرئ بتشديدها على إدغام التاء المهموسةِ في الذال المجهورة، وقرئ {يتذكرون} على صيغة الغَيبة، و{قليلًا} نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ مقدَّمٍ للقصر، أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ و{ما} مزيدةٌ لتأكيد القِلة، أي تذكرا قليلًا أو زمانًا قليلًا تذكرون لا كثيرًا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله تعالى وتتبعون غيرَه، ويجوز أن يُراد بالقلة العدمُ كما قيل في قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين، والالتفاتُ على القراءة الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر والنهي على صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثّة، وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلًا تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} بل إلى المقيد والقيدِ جميعًا، وتخصيصُه بالذكر لمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين المنكرين. اهـ.

.قال الألوسي:

{اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ}
خطاب لكافة المكلفين، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلًا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع؛ وقيل: المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر.
وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون أدعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه.
ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد.
نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة، و{مِنْ} متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازًا أو بمحذوف وقع حالًا من الموصول أو من ضميره في الصلة، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الضمير المجرور عائد إلى {رَبُّكُمْ} والجار متعلق بمحذوف وقع حالًا من فاعل فعل النهي أي ولا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة.
ويجوز أن يكون الجار متعلقًا بمحذوف وقع حالًا من {أَوْلِيَاء} قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى، وأن يكون متعلقًا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره.
ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعًا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي، وقيل: الضمير لما أنزل على حذف مضاف في {أَوْلِيَاء} أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء، وكأنه قيل: ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء اتباعًا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد.
وقرأ مجاهد {تَبْتَغُواْ} بالغين المعجمة من الابتغاء.
{قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرًا قليلًا أو زمانًا قليلًا تذكرون لا كثيرًا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره، فقليلًا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر، و{مَا} مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلًا ما فهي هاهنا قلة على قلة، والظاهر من القلة معناها، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وأجيز أن يكون {قَلِيلًا} نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعًا قليلًا، قيل: ويضعفه أنه لا معنى حينئذٍ لقوله سبحانه: {تَذَكَّرُونَ} وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني، وأن يكون حالًا من فاعل {لاَ تَتَّبِعُواْ} وما مصدرية أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعًا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ، و{قَلِيلًا} على معنى زمانًا قليلًا خبره، وقيل: إن ما نافية و{قَلِيلًا} معمول لما بعده، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها، والمعنى ما تذكرون قليلًا فكيف تذكرون كثيرًا وليس بشيء.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص {تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين وذال مخففة.
وقرأ ابن عامر {يَتَذَكَّرُونَ} بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين.
وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة، والجملة على ما قاله غير واحد اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
بيان لجملة: {لتنذر به} [الأعراف: 2] بقرينة تذييلها بقوله: قليلًا ما تذكرون.
فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم، كلٌ يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضًا بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم، فوصْفُ الرب هنا دون اسم الجلالة: للتّذكير بوجوب اتّباع أمره، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله: {قليلًا ما تذكرون}.
والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماششٍ، فمعناه يقتضي ذاتين: تابعًا ومتوبعًا، يقال: اتَّبع وتَبِع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري} [طه: 92، 93] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحو: {ولا تَتّبعوا خطوات الشيطان} [البقرة: 168] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى: {إن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ} [الأنعام: 50]، ومنه قوله هنا: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}.
والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله: {كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 2].
وقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} تصريح بما تضمّنه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له، وأنّه الولي، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم، وغيرَ ذلك من آي القرآن؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتمامًا بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم، وتسجيلًا على المشركين، وقطعًا لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم: لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكًا هو لك تملكه وما ملك فموقع قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم} موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع {ولا تتبعوا} موقع الفصل المانع في الحَدّ.
والأولياء جمع ولي، وهو المُوالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على النّاصر، والحليف، والصاحب الصّادق المودّة، واستعير هنا للمعبود وللإله: لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالى: {أم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي} [الشورى: 9] وقد تقدّم عند قوله تعالى: {قل أغير الله أتّخذ وليًا} في سورة الأنعام (14)، وهذا هو المراد هنا.